⁠العاشرة مساءً
٨٣١ كلمة
٠ تعليق

في كل حديث لي عن الأعمال المنزلية أحب دائمًا أن أبدأ بطرافة كاتبة الجريمة الأشهر أجاثا كريستي عندما قالت إنها تفكر في قتل أحدهم في كل مرة تقوم فيها بغسل الصحون. وهذا لا يعني أبدًا أن غسل الصحون يجعلها عدوانية للدرجة التي تفكر فيها بإنهاء حياة أحدهم، بل إنها تبدأ في تخطيط كتاب جديد، أي جريمة جديدة، أثناء غسل الصحون، وأنا هنا أفهم ما تعنيه أجاثا تمامًا.

على عكس الكثير من تجارب الآخرين، نشأت محبة للقيام بالأعمال المنزلية، وكان الأمر في بدايته وسيلة للحصول على رضا أمي ومَديح والدي مع زيادة في المصروف. فلم تكن هذه المحبة خالصة، بل كما هو واضح، كان العمل المنزلي هو طريقي الأوضح نحو الثراء.

تغيرت علاقتي بالعمل المنزلي مع الوقت، وأصبحت أرى تأثيره الإيجابي في صقل جوانب مختلفة من شخصيتي، لا أعتقد أن هناك أنشطة بسيطة قادرة على فعل ذلك بي غيره.

فلنبدأ بجلي الصحون، وهو ربما العمل الأثقل على قلوب الكثيرين. بالنسبة لي، أرى في عملية غسل الأطباق تمرينًا لمهارة ما، وممارسة لنشاط ما. أبدأ عملي أمام المجلى بتقسيم الأواني حسب نوعها وحجمها: الملاعق والشوك، الأكواب، الأطباق، ثم الحلل والطاسات وغيرها. وأبدأ بغسلها من الأكبر إلى الأصغر حتى تزداد المساحة أمامي بمرور الوقت. وهذا بالضبط ما أفعله مع باقي المهام في حياتي، أبدأ دائمًا بالمهمات الأكبر أو الأصعب، ممهّدة الطريق للمهام الأبسط والأصغر.

أما النشاط الذي أمارسه فهو التأمل التام بالنظر واللمس لعملية تنظيف كل نوع من الأواني، وأراقب شعور الرضا التام الذي ينمو في داخلي وأنا أغير واقع الأشياء من متّسخة إلى نظيفة. تشعرني هذه العملية بالقدرة والثقة في ذاتي لتغيير (تنظيف) باقي جوانب حياتي تمامًا كما فعلت مع حلة ضخمة. كل ما أحتاجه هو التركيز والمثابرة.

الآن أفهم تمامًا أشخاصًا كـأجاثا كريستي، التي أبدعت أعقد الجرائم الأدبية وهي تغسل الصحون، وعالم الفيزياء ألبرت أينشتاين، الذي كان يحتاج إلى غسل الصحون بنفسه، لأنه كان يؤمن بأن هذه المهام اليدوية تجعله في حالة استرخاء، وتسمح لأفكاره بالتدفق بحرية.

أما بالنسبة للمهام الخاصة بالملابس من نشر وتطبيق، فأنا أعتبرها نوعًا من أنواع الفن.

عرفت عندما كنت أتمشى مع ابنة عمي في قريتنا الصغيرة قديمًا أن الناس يستطيعون إصدار الأحكام على مهارات النساء في الأعمال المنزلية من خلال النظر إلى شبابيكهم وبلكوناتهم، فمن هناك تستطيع القرية النظر إلى التكنيك الذي قامت المرأة بنشر الملابس به. فالأفضل أن يتم نشر القطع الكبيرة بعيدًا عن حائط الشباك أو البلكونة، حتى لا تصطدم الملابس بالسطح بفعل الهواء فتلتقط بعض الأتربة. ثم يصبح الحبل الأقرب للحائط مخصصًا لبعض الملابس الخاصة التي لا يُحمد أن تترك مشاعًا أمام العلن. كنت أضحك لأن هذا تخطيط هندسي لشيء بسيط للغاية، لكنه مقنع جدًا ومعبر عن البيئة. وبدأت أقارن بين مناشير القرى في مصر ومناشير القرى في إيطاليا مثلًا، فتستطيع أن تخرج بالكثير من التفسيرات الاجتماعية عن المنطقة بمراقبة الملابس المنشورة.

أما عملية تطبيق الملابس، فهي فن آسيوي خالص، وليس هذا على صيغة المبالغة أبدًا. قرأت منذ ٣ أعوام كتاب: “سحر الترتيب” لخبيرة التنظيم والترتيب اليابانية ماري كوندو، والذي جعلني أنظر لتعاملي مع الملابس نظرة أعمق وأرقى بكثير. في كتابها البسيط الذي غيّر حياة الملايين حول العالم، قدّمت كوندو مفهومًا جديدًا للتعامل مع الأشياء التي نمتلكها، حيث لا يجب أن تكون مجرد أغراض مكدّسة، بل “رفاق” نختار الاحتفاظ بهم إذا كانوا يبعثون فينا السعادة.

كانت ماري كوندو تؤمن أن كل قطعة ملابس تستحق احترامًا خاصًا، وأن ترتيبها وتطبيقها يجب أن يكون بعناية وهدوء، لتظل في أفضل حالاتها وتبعث البهجة في نفوسنا. هذا المفهوم جعلني أدرك أن العناية بالملابس ليست مجرد عمل روتيني، بل هي طريقة لإظهار الامتنان للأشياء التي تخدمنا يوميًا. أصبح تطبيق الملابس جزءًا من روتيني التأملي، أشعر فيه بنوع من الصفاء النفسي والترتيب الداخلي، كأنني أعيد ترتيب أفكاري أيضًا.

طريقة ماري كوندو في طيّ الملابس، بحيث تقف كل قطعة بشكل رأسي بدلاً من تكديسها أفقيًا، جعلتني أدرك أن الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا. لقد أصبحت أعيد التفكير في كل ما أمتلك، وأسأل نفسي: هل هذه الأشياء تضيف قيمة إلى حياتي؟ هل تثير فيّ شعورًا إيجابيًا؟ تدريجيًا، تحولت عملية ترتيب الملابس من مهمة روتينية إلى تجربة عاطفية تبث في داخلي شعورًا بالهدوء والرضا، وتُعزز من ارتباطي العميق بالأشياء التي أختار الاحتفاظ بها في حياتي.

أما بالنسبة لترتيب الأثاث وتنظيف المساحة التي أعيش وآكل فيها، فله تأثير عميق يتجاوز الجوانب الجمالية. فالعيش في مكان منظم ونظيف يعزز الشعور بالسلام الداخلي، ويجعل الذهن أكثر صفاءً وتركيزًا. في لحظات الترتيب والتنظيف، يتفاعل المرء مع الأشياء التي يحيط نفسه بها، كأنه ينسّق تفاصيل حياته ويعيد ترتيبها وفق ما يناسبه. ويصبح المكان الذي يقضي فيه يومه أشبه بواحة صغيرة تشع بالراحة النفسية، مما ينعكس إيجابيًا على مزاجه وإنتاجيته. كثيرًا ما نجد أن المساحة النظيفة تفتح لنا مجالًا لتدفّق الأفكار وتخفيف التوتر، كما لو أن الترتيب الخارجي يعيد ترتيبنا من الداخل.

وفي النهاية، أدركت أن الأعمال المنزلية ليست مجرد مهام روتينية، بل تحمل قيمة معنوية تضيف إلى الحياة اليومية تجربة من الاسترخاء والسلام الشخصي. هي أشبه بجسر خفي يصلنا بمشاعر الراحة والبساطة، حيث تتعلم النفس أن تجد الجمال في التفاصيل الصغيرة، وتستمد من الأعمال اليومية دروسًا هادئة، تجعلها أكثر صبرًا وتقديرًا للوقت. إنها رحلة مستمرة من الاكتشاف، حيث نتعلم كيف نضفي على الفوضى نظامًا، وعلى المهام اليومية معنىً أعمق، يجعل من روتين حياتنا اليومية لوحة نرسمها برفق وحب.

شارك هذا الـمقال