⁠الخامسة عصرًا
٥٨٤ كلمة
٠ تعليق

في اللحظة التي يتسارع فيها قلبك وأنت تدخل مكانًا غير مألوف، في الشدّ الخفيف الذي يظهر في كتفك حين تتوتر، في اضطراب المعدة قبل عرض مهم، وفي التعب الذي لا تفسير له رغم أنك نمت جيدًا… في كل هذه الحالات، لا يتكلم العقل، بل الجسد. يتحدث بلغته الخاصة، التي لا نُدرَّب على سماعها، ولا نُعطى الأدوات لفهمها. وهنا يدخل علم النفس الجسدي — ذلك الحقل الذي يحاول أن يربط بين ما نشعر به وكيف نشعر به في أجسادنا.
علم النفس الجسدي (أو Psychosomatics) لا يُعنى فقط بالأمراض “النفس-جسدية” التقليدية، بل يتعامل مع الجسد بوصفه امتدادًا للشعور، وذاكرةً أعمق من الذاكرة الذهنية.

ما الذي يعنيه أن نعيش في جسدٍ يشعر؟


علم النفس الجسدي يقوم على مبدأ أساسي: أن كل تجربة نفسية — من القلق إلى الفرح — تترك أثرًا جسديًا، وأن الجسد لا يحتفظ فقط بالنتائج، بل بالتجربة نفسها. فحين يُصاب شخص بـ قلق اجتماعي مزمن، لن تكون المشكلة فقط في “أفكاره عن نفسه”، بل في التوتر المزمن في عضلاته، تسارع ضربات قلبه، توتر صوته، ارتباك حركة يده. الجسد، هنا، لا ينفصل عن الحالة… بل هو الحالة.
تقول الدكتورة بِسِل فان دير كولك، أحد أبرز الباحثين في هذا المجال، في كتابها الشهير The Body Keeps the Score:
حين لا نملك لغة نفسية كافية لنُعبّر، فإن الجسد يحتفظ بالقصة. الألم العاطفي الذي لا يُقال… يُخزّن.

ماذا يحدث حين نُهمل إشارات الجسد؟


حين نتجاهل الجسد، لا يختفي ما يشعر به. بل يبحث عن طريقة أخرى للظهور: في شكل صداع مزمن، أو تعب عام، أو أرق، أو ارتجاع معدي، أو حتى أمراض جلدية. وهنا، يتقاطع علم النفس الجسدي مع ما يُعرف في الطب بـ الأعراض النفس-جسدية (Psychosomatic Symptoms)، وهي حالات لا يمكن تفسيرها عضويًا بسهولة، لكنها تظهر بوضوح حين نربطها بتاريخ المريض العاطفي، أو بموقف لم يُعالَج شعوريًا.
الجسم هنا لا “يدّعي المرض”، بل يُترجم المعاناة بلغة مادية.

العلاقة بين الصدمة والجسد


أحد أهم ميادين علم النفس الجسدي هو العلاقة بين الصدمة النفسية والجسد.
فالصدمة، بخلاف الحزن أو القلق، تُجمِّد الجسد. تُربك الجهاز العصبي. تتركه في حالة من الاستنفار أو الخدر. الناجون من الصدمات، بحسب الدراسات، يعانون غالبًا من اضطرابات في التنفس، تشنجات عضلية، اختلال في إدراك المسافة الجسدية، مشاكل في الجهاز الهضمي، وغيرها.
وهذا لأن الجسد، عند التعرض لخطر كبير، لا “ينسى” بسهولة. بل يُعيد تجربة الخوف مرارًا… من دون أن يملك أداة للحديث.
ولهذا، يعتمد كثير من برامج علاج الصدمة اليوم على تقنيات جسدية:
التنفس الواعي، اليوغا العلاجية، تقنيات تحرير التوتر العصبي (TRE)، بل وحتى الرقص، كوسيلة لإعادة الإحساس بالسيطرة على الجسد.

لماذا نتعامل مع الجسد وكأنه شيء “خارجنا”؟


في كثير من الثقافات، ومنها ثقافتنا العربية، نشأنا على الفصل بين “العقل” و”الجسد”، بين “النفس” و”البدن”. الجسد كان دائمًا “موضوعًا” نُراقبه، نتحكّم فيه، نُخفيه، نُحمّله رمزية أخلاقية.
لكن ما لم نُدرَّب عليه، هو أن نعيشه.
علم النفس الجسدي يعيد للجسد مكانته كجزء حيّ من هويتنا. لا كمجموعة أعضاء… بل كـ ”كائن شعوري” له لغة، ومزاج، وذاكرة.

كيف نبدأ في الاستماع إلى الجسد؟


• راقب متى تتنفس ببطء، ومتى تضيق أنفاسك.
• انتبه إلى وضعية جسمك حين تتحدث عن شيء يؤلمك.
• اسأل نفسك: ماذا يقول لي جسدي الآن؟ لا ماذا “يجب أن يقول”.
• جرّب الكتابة عن شعورك “في الجسد”: أين يتمركز؟ ما لونه؟ ما ملمسه؟
• ولا تخف من الحركة. كثير مما لا نستطيع قوله… نستطيع رقصه.


الجسد ليس وسيلة نُنقل بها من مكان إلى آخر. ولا هو مُلكٌ نُزيّنه لنُرضي به الآخرين. الجسد أول بيت نسكنه، وآخر من يبقى معنا. وإذا أردنا أن نعيش بسلام، علينا أن نبدأ بالعودة إليه، وسؤاله: كيف حالك؟ ماذا حملت عني بصمت؟ وماذا تريد أن تقول… قبل أن أتعبك أكثر؟

شارك هذا الـمقال