⁠الخامسة عصرًا
٩٠٥ كلمة
٠ تعليق

ربما نحن في طابور طويل في البنك، أو نجلس في محطة المترو ونتأمل وجوه المارة، نرى أن لحظات الانتظار في البداية عابرة، ثم يتسلل الملل إلينا تدريجيًا وندرك فجأة أن الوقت يمر ببطء.

في تلك اللحظة تحديدًا تتوجه أيدينا بلا وعي نحو هواتفنا المحمولة، هذا الإجراء العفوي الذي أصبح رد فعل فوري عند الشعور بالفراغ، ويسبب هذا الفراغ شعورًا بالقلق والتوتر في عصر نرى فيه أنه من الواجب علينا الاستفادة بكل لحظة فيه. تلك الرغبة في الانشغال المستمر تعكس ما يسميه الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارددوار الحرية“، القلق الذي نشعر به عندما نكون في مواجهة فراغ فكري. فنميل إلى الهروب من هذا القلق باستخدام هواتفنا؛ نتصفح وسائل التواصل الاجتماعي أو نتحقق من الرسائل بلا وعي، خوفًا من مواجهة أنفسنا في لحظات التأمل. لكن ماذا لو أننا بدلًا من ذلك استخدمنا هذه اللحظات للتفكير بعمق فيما يدور بداخلنا؟ ماذا لو رأينا في كل انتظار فرصة لإعادة اكتشاف عقولنا؟

في كتابه “فن التفكير الواضح”، يقول رولف دوبلي: “العقل لا يعرف السكون؛ إنه يتجول دائمًا باحثًا عن التحفيز.” إذًا، لماذا لا نجعل من لحظات الانتظار محطات لاستكشاف عوالم جديدة من المعرفة؟ سواء كنت في طابور، أو منتظرًا موعدًا، أو حتى في زحام مروري، كل لحظة يمكن أن تتحول إلى تجربة معرفية غنية إذا تعاملنا معها بذهن منفتح وروح فضولية. المفكرون والفلاسفة عبر العصور اعتبروا أن التعلم لا يتوقف عند الفصول الدراسية، بل يستمر في كل لحظة وفي كل مكان.

ولسنا هنا بصدد ذم التكنولوجيا أو الأدوات المعاصرة التي أسهمت في تسهيل وتطوير الحياة بشكل أعجوبي، ولكن سننطلق من ملاحظة عالم النفس نيكولاس كار الواردة في كتابه The Shallows أن استخدامنا المستمر للتكنولوجيا، وخاصة الهواتف الذكية، يعيد تشكيل أدمغتنا، وقد يكون سببًا قويًا لتقليل القدرة على التركيز والتفكير بعمق، مما يؤدي بطبيعة الحال إلى ضعف قدرة الفرد على التفكير التحليلي والتأملي. ولكن مع قليل من التفكير سنجد أن الأسلحة دائمًا في أيدينا، وأننا قادرون على تطويع كل الأدوات لصالحنا النفسي والعقلي. إذًا لنبدأ بهذه القناعة: في قدرة الإنسان دائمًا السيطرة والاستفادة من الأدوات التي يخترعها لنفسه، ولا تخرج الأمور عن السيطرة إلا عندما يتوقف عن التعامل برؤية واضحة ونية سليمة.

ولكن كيف يمكن أن نستخدم هذه الأدوات دون أن نصبح أسرى لها؟

المفكر إيكهارت تولّه يوجهنا إلى ممارسة “الحضور الكامل“، أن نكون هنا، الآن، وأن نتفاعل مع اللحظة بكل ما فيها من تحديات وفرص. بدلًا من الاستجابة الفورية لكل إشعار يظهر على الشاشة، يمكننا أن نختار أوقاتًا محددة للتفاعل مع هواتفنا. قد نخصص لحظات الصباح الباكر أو نهاية اليوم للتحقق من هواتفنا، مما يمنحنا فرصة للعيش في اللحظة والتفاعل مع العالم حولنا بعمق.

ثم يأتي دور القراءة والاستماع بوعي. يذكرنا الفيلسوف اليوناني سقراط بأن “الحياة غير المدروسة لا تستحق أن تُعاش”. فبدلًا من الانغماس في التمرير العشوائي لوسائل التواصل الاجتماعي، يمكن أن نجعل القراءة والاستماع جزءًا من رحلتنا لاكتشاف العالم من حولنا.

القراءة، كما يراها الفيلسوف إيمانويل كانط، ليست مجرد اكتساب معلومات، بل هي تجربة تفاعلية بين النص والقارئ، حيث يعيد القارئ بناء الأفكار ويطرح التساؤلات ويتحدى المفاهيم التقليدية. عندما نقرأ أو نستمع بوعي، نفتح عقولنا لنقد الأفكار وتحليلها. نحن لا نتلقى المعلومات بشكل سلبي، بل نصبح شركاء في الحوار، نفكر في ما نسمعه ونقرأه، ونعيد صياغة أفكارنا وتصوراتنا بناءً على ذلك. هذا النوع من القراءة والتفاعل مع المحتوى يمكن أن يكون قوة دافعة للتغيير الداخلي، لتطوير التفكير النقدي والقدرة على رؤية العالم بعيون جديدة، فيمكن أن يكون اختيارك لموضوع ما وتخصيص أوقات الانتظار للتزود فيه ومعرفته بشكل أعمق شكلًا مجديًا على المدى الطويل.

فلننظر إلى الهاتف كأداة تتجاوز مجرد الاتصال أو الترفيه، بل كوسيلة للتفاعل النقدي، والتأمل العميق، والتواصل الإنساني الحقيقي. كما قال الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا: “نحن نكتب دائمًا إلى الآخر.” فلنستخدم هذه الكتابة، سواء كانت في رسالة نصية أو مقالًا نقرأه أو بودكاست نسمعه، كوسيلة للتعلم والنمو، للبحث عن المعاني الأعمق في كل لحظة نعيشها. فيمكنك أن تعامل الكتابة كفأس تسبر به أغوار عقلك تجاه أفكار تراها دائمًا مسلّمة، أو موقف قديم طالما رأيته من زاوية واحدة، أو رأي ترى أنه يستحق التفاعل معه بشكل أعمق.

وربما تكون تجربة الانتظار في ذاتها عملية ثورية ذاتية. يشي إيكهارت توله أن الوقت ليس شيئًا نستهلكه بل هو شيء نعيش فيه، وأرى أن علاقتنا مع الوقت تتجلى في كونها إطارًا نستهلك أنفسنا فيه، ويتضح مع المراقبة الذاتية للنفس نوع هذه الحياة أو هذا الاستهلاك عندما نجد أنفسنا دون مهمة نقوم بها أو واجب نؤديه، جالسين في حالة انتظار.

ما الأفكار الأولية التي تخطر في عقلي عندما لا يكون منشغلًا؟ كيف أشعر بالأصوات والتركيبات من حولي؟ كيف أتحدث إلى نفسي عن نفسي وعن الآخرين؟

الكاتب الألماني الحائز على جائزة نوبل هيرمان هسه يقر بأن لحظات الانتظار التي عرف فيها نفسه هي ما وضعه على الطريق الذي هو عليه اليوم ككاتب مشهور بغوصه في التأملات الإنسانية. بعد مروره بأزمة نفسية في بداية عشريناته، سافر هسه إلى الهند وسويسرا هربًا من الحياة الاجتماعية. “في تلك اللحظات من الانتظار، بدأت أسمع صوتًا لم أسمعه من قبل، صوت نفسي الحقيقية، التي كانت تخاطبني بوضوح لم أكن أتوقعه”.

وفي النهاية، لنتذكر أن الحياة ليست سباقًا ضد الزمن، بل رحلة نحو الفهم العميق للذات والعالم من حولنا. إن استخدام أوقات الانتظار كفرصة للتأمل والتعلم والتفاعل الواعي ليس مجرد خيار إضافي، بل هو جزء من إعادة صياغة رؤيتنا للحياة. إنه يدعونا إلى الوقوف للحظة، لنفكر، لنتأمل، ولنتحدى الحدود التي وضعتها لنا السرعة والتكنولوجيا.

وكما يقول الفيلسوف الصيني لاو تزو:


“الصبر والمثابرة هما أقوى قوتين في الحياة، لأنهما يتيحان لنا أن نجد في الصمت صوتًا، وفي الانتظار اكتشافًا.”

فلنجعل من أوقات الانتظار مساحة لاكتشاف أنفسنا، ومساحة للتواصل مع العالم بعقلية جديدة، قلبها الفضول وروحها الحرية.

شارك هذا الـمقال