في لحظة ضعف مدني، وبينما كنت أعبر الشارع متفاديًا حفرة، ومُحاطًا بأصوات الكلاكسات، وشخص يبيع الفريسكا بصوت جهوري لا ينسجم مع الخامسة صباحًا، قررت أنني لم أعد أصلح لهذه الحياة. قررت أن أبدأ خطتي الجهنمية: سأنتقل للعيش في كمبوند.
لا، لست من مُحبّي المجتمعات المغلقة، ولا أرى في السور أمنًا روحيًا، ولا في البوابة الكهربائية استقرارًا وجوديًا. لكنني تعبت. تعبت من عمّ فتحي الذي يقرر أن يدقّ على ماسورة المياه في الثالثة فجرًا. من جارتنا التي تعتقد أن السلم ملكية خاصة لكلابها. من الطفل الذي يلعب بـ”الليزر” في عيني وأنا أكتب. ومن صوت الخناقات التي تتصاعد على مراحل، ثم تهدأ، ثم تعود في تنويعات لحنية جديدة. كنت أريد فقط… بعض الهدوء.
هنا تبدأ الخطة. أوّل بند: سأبدأ بتصفية “المحيط”. أحدّث نفسي أن “الحياة ليست بطولة في التحمُّل”، وأن الكمبوند ليس استسلامًا، بل ترقية. أشتري كراسة جديدة، أكتب عليها: مشروع هروب حضاري. أبدأ بتحديد المطلوب:
• بوابة أمان.
• شباك يطل على خضرة، لا على بلكونة فيها قفص عصافير وزرع ذابل.
• صوت “طيور” حقيقي، لا تسجيل من تطبيق.
• سوبر ماركت داخلي لا أسأم من زبائنه، ولا من صفه الطويل.
• وأهم بند على الإطلاق: حمّام لا يُشاركك فيه الجيران عبر المواسير.
الخطة لم تكن سهلة. بدأت أزور كمبوندات كما يزور المتدينون الأديرة. أمشي في الصمت باحترام. أشم رائحة الهدوء. أراقب كيف يسلّم الناس على بعض دون أن يسأل أحدهم “ها بتشتغل إيه؟” كنت أظن أنني سأجد هناك الصفاء. لكن الحقيقة؟ وجدت… تنظيمًا خانقًا. كل شيء نظيف جدًا، مرتب جدًا، مُبتسم جدًا. حتى صوت العصافير بدا وكأنه يعمل بشيفتات.
لكنني، رغم كل شيء، كنت مستعدًا. قررت أن أقبل المعادلة: قليل من الروح مقابل كثير من الراحة. أن تكون الحياة أقل فوضى، ولو قليلاً. أن أستبدل الجارة الفضولية بجروب واتساب يشكو من الحارس. أن أشتري من ميني ماركت بلا نقاش في الأسعار، ولا نُصح زراعي من البائع. كنت مستعدًا لأن أدفع الإيجار الجديد، وأقتني الدرّاجة القابلة للطي، وأصبح من أولئك الذين يقولون: “أنا في البيت… بس محتاج كود الدخول.”
قد تسألني الآن: هل كنت خائفًا أن أفقد شيئًا؟ الروح؟ العشوائية؟ الحواديت؟ ربما. لكن في عمر معين، تبدأ الحكايات تفقد سحرها حين تأتيك من شباك الحمام، أو على شكل جارة تطرق الباب لتسأل عن سبب تأخرك في تعليق ستارة. في عمر معين، تحلم بمكان لا يحدث فيه شيء… ولا يطلب فيه أحد “بس كوباية سكر”.
هل سأنفذ خطتي؟ أظن ذلك. لكن، في سرّي، سأحتفظ بصوت الشارع. بصوت بائع الفول عند الفجر. بضحك البنت على السلم. وبأغنية أم كلثوم التي تأتي من الراديو القديم في البلكونة المقابلة.
سأعيش في الكمبوند، نعم. لكنني سأسرّب إلى غرفتي، كل ليلة، القليل من الفوضى… لأتذكّر أنني لست هاربًا تمامًا، بل فقط آخذ استراحة… من العيش بلا خطة.