عن الدقائق الأولى التي تحدّد شكل اليوم كله
نستيقظ، نفتح الهاتف، نقرأ رسالة، نُطفئ منبهًا، نُفعّل عادة ما دون وعي: نبدأ يومنا برد فعل. ردّ على إشعار، على شعور بالتأخير، على فكرة مقلقة من الليلة الماضية. وهكذا، تتحوّل أول دقائق في اليوم إلى أرض معركة ذهنية، قبل أن نغسل وجوهنا حتى. لكن ما لا يعرفه كثيرون أن صباحك ليس وقتًا محايدًا، بل أكثر لحظة حساسة في يومك من حيث التأثير العصبي والنفسي. الدقائق الأولى من الاستيقاظ تُشكّل حالتك الهرمونية، مزاجك، انتباهك، وحتى علاقتك بالأفكار التي ستزورك لبقية النهار.
في علم الأعصاب السلوكي، تبيّن أن أول ٤٥ دقيقة بعد الاستيقاظ تشهد ارتفاعًا طبيعيًا في هرمون الكورتيزول، وهو ما يُعرف بـ Cortisol Awakening Response. وهذا الارتفاع ليس سلبيًا، بل يُهيّئ الجسم للانتباه، والتنظيم، واتخاذ القرار. لكن إذا استُهلك هذا الوقت في القلق، أو التشتيت، أو الاستهلاك السريع للمحتوى، يتحوّل الهرمون من محفّز إلى عبء عصبي يزيد القلق والتشتت لاحقًا. بعبارة أبسط: كيف تبدأ صباحك، هو ما يُبرمج جهازك العصبي لبقية اليوم.
أنا، مثل كثيرين، بدأت ألاحظ أن الأيام التي أبدأها بهدوء (حتى لو لربع ساعة فقط)، تختلف تمامًا عن الأيام التي أبدأها بالهاتف. في الهدوء، أشعر أنني “أملك اليوم”، وفي الردود السريعة، أشعر أنني أُطارد يومًا لا أعرف كيف بدأ أصلًا.
فماذا يعني أن نبدأ الصباح بطريقة صحيّة؟ ليس بالضرورة أن تستيقظ عند الخامسة، ولا أن تمارس اليوغا أو التأمل — هذه أفكار مفيدة، لكنها ليست للجميع. الأهم أن تُعيد صباحك إلى نفسك، بدل أن تسلّمه للعالم منذ اللحظة الأولى.
إليك بعض ما بدأ يصنع فرقًا في صباحي:
• أول ١٠ دقائق بلا شاشة.
لا هاتف، لا إشعارات، لا أخبار. مجرد وقت أستمع فيه إلى نفسي، قبل أن يستمع لي أحد.
• شرب الماء قبل القهوة.
الجسد يحتاج ما يُنقذه من الجفاف أكثر من ما يُوقظه من النوم.
• فتح النافذة.
الضوء الطبيعي يُعيد ضبط الساعة البيولوجية، ويحسّن المزاج أسرع من أي محتوى.
• كتابة سطر واحد.
لا خطة، لا تأمل عميق. فقط: “كيف أشعر الآن؟” هذه الجملة تُفرّغ شيئًا بداخلي، دون أن أُحلله.
• مشي خفيف، حتى داخل البيت.
الحركة تُحرّك التفكير أيضًا، وتُبدّد توترًا صغيرًا قبل أن يتضخم.
لماذا هذا مهم؟
لأن أغلب ما يُفسد يومنا لا يأتي من الخارج، بل من كيف استقبلناه.
حين تبدأ يومك بشيء اخترته، تشعر بالسيطرة.
وحين تبدأه بمطالبة، تشعر أنك متأخر… حتى وإن لم تكن.
صباحك ليس رفاهية، ولا وقتًا فارغًا تُملأ بأي شيء.
بل هو لحظة استعادة.
تقول فيها لنفسك:
“أنا هنا. وسأبدأ… لا لأن عليّ ذلك، بل لأنني أستحق أن أبدأ بطريقة تُشبهني.”
ولعل أجمل ما في الصباح أنه — كل يوم — فرصة جديدة لصياغة يومك كما يجب، حتى لو لم تملك أمسًا كاملًا.
ابدأ، بصدق، لا بكمال.
وستعرف بعد أيام قليلة،
أن تغيير الصباح… هو ما يغيّر كل شيء.