قابلتُ نفسي صدفة.
لم يكن ذلك في جلسة علاج نفسي، ولا أثناء تأمل طويل. بل في موقف بسيط: تأخرت عن موعد، ثم لم أُنجز ما خططت له، وانتهى اليوم بشعور مألوف من الفوضى والتقصير. في تلك الليلة، انتبهت لما قلته داخلي: “أنت لا تصلح لشيء.” جملة قاسية، لم يقلها أحد لي من قبل، لكنني قلتها لنفسي، بوضوح، وبصوت لا يعلو… لكنه لا يسكت. وقفت لحظة وسألت: من أين جاء هذا الصوت؟ ولماذا أصدقه بسهولة؟ ولماذا لا ألاحظ أنني أُحدث نفسي كل يوم بعشرات الجمل، دون أن أفكر في معناها أو أثرها؟
الحديث إلى النفس ليس انحرافًا، بل جزء أساسي من وعينا.
كلنا نتحدث إلى أنفسنا: نلومها، نطمئنها، نُعاتبها، نُخيفها. لكن الفارق الكبير هو: هل نعي ما نقوله؟ وهل نختار الكلمات كما نختارها حين نخاطب الآخرين؟ في علم النفس المعرفي، يُشار إلى “الحديث الداخلي” بوصفه المصفاة الأولى لمزاجنا وسلوكنا. أنت لا تشعر فقط بما يحدث، بل بما تقوله لنفسك عن الذي يحدث. حين تخطئ وتقول: “أنا فاشل”، يختلف الأثر تمامًا عن قولك: “لقد أخطأت، وسأفهم السبب.” الدماغ يسجّل. ليس الأحداث فقط، بل الجمل التي تفسّر بها هذه الأحداث. وبمرور الوقت، تُصبح هذه الجمل حقائق غير قابلة للنقاش داخل نفسك.
loading="lazy" decoding="async" class="alignnone wp-image-527 size-full" src="/_cached/img/2025_07_reo_nanz2627_illustration_of_a_person_hugging_themself._geome_21f0f2f9-706b-4c08-a0da-9ba2d2760b81_0-copy.png" alt="" width="1024" height="1024" srcset="/_cached/img/2025_07_reo_nanz2627_illustration_of_a_person_hugging_themself._geome_21f0f2f9-706b-4c08-a0da-9ba2d2760b81_0-copy.png 1024w, /_cached/img/2025_07_reo_nanz2627_illustration_of_a_person_hugging_themself._geome_21f0f2f9-706b-4c08-a0da-9ba2d2760b81_0-copy-300x300.png 300w, /_cached/img/2025_07_reo_nanz2627_illustration_of_a_person_hugging_themself._geome_21f0f2f9-706b-4c08-a0da-9ba2d2760b81_0-copy-150x150.png 150w, /_cached/img/2025_07_reo_nanz2627_illustration_of_a_person_hugging_themself._geome_21f0f2f9-706b-4c08-a0da-9ba2d2760b81_0-copy-768x768.png 768w" sizes="auto, (max-width: 1024px) 100vw, 1024px" />
كنت أعتقد أن “حب الذات” شعارات مكررة
لكنني حين بدأت ألاحظ لغتي الداخلية، رأيت أنني أُسيء إلى نفسي أكثر مما يفعل أي ناقد خارجي. ليس لأنني قاسٍ بطبعي، بل لأنني لم أتعلم أن أكون منصفًا مع نفسي. كنت أعتبر التأنيب نوعًا من الانضباط، والصمت الداخلي نوعًا من الواقعية، لكنني اكتشفت أنني أعيش في حوار داخلي لا يسمح لي بالتعاطف مع ذاتي، ولا بالصفح عنها.
تجربة بسيطة غيرت هذا كله.
كتبت ذات مساء، بصيغة الخطاب: “أعرف أنك متعب، لكنك ما زلت تحاول.” جملة واحدة، بلا صيغة مثالية. لكنها — للمرة الأولى — كانت موجهة لي… لا للناس. ثم بدأت أكرر هذا النوع من الكتابة، لا كتمرين، بل كمحادثة. كنت أكتب: “أنت خائف من الفشل، لا لأنك ضعيف، بل لأنك جرّبت الخسارة من قبل.” أو: “تظن أنك متأخر، لكنك في الحقيقة تقارن نفسك بصورة لا أحد يعيشها.” ولأول مرة، شعرت أن الحديث الداخلي يمكن أن يكون أداة تعاطف لا عقاب.
لقاء النفس لا يحتاج إلى عزلة طويلة.
بل إلى لحظات قصيرة، صادقة، نختبر فيها حالنا دون تجميل. أن نمشي دون سماعات. أن نكتب دون نية للنشر. أن نسأل أنفسنا بصدق: “ما الذي يشغلني الآن؟” “ما الذي أهرب منه؟” “ما الذي كنت أحتاج أن أسمعه من شخص آخر… ولم أقله لنفسي بعد؟”
“كثير من الإجهاد الذي نحمله لا يأتي من العالم، بل من طريقة تفسيرنا لما يحدث”
حين نفشل، لا نسأل: لماذا؟ بل نحكم: لأنني غير كفء. حين نتأخر، لا نقيم الظرف، بل نلوم الذات فورًا. وهكذا، نعيش داخل عقل يعمل ضدنا، دون أن نعلم. والتغيير لا يبدأ من الخارج، بل من تلك الجملة التي نكررها داخليًا كل يوم. من أن نكفّ عن جلد الذات باسم الواقعية، وأن نبدأ، ببساطة، باستبدال “أنا دائمًا…” بـ “في هذه اللحظة فقط…”.
أن نلتقي بأنفسنا من جديد لا يعني أن نصبح مثاليين.
بل أن نُنشئ معها لغة جديدة: أقل قسوة، أكثر وضوحًا، وأكثر استعدادًا لتقبّل أننا نخطئ، ونتعب، وننضج. وأننا، مهما بدا علينا من اتزان، ما زلنا نحتاج أن نسمع من أنفسنا ما لم يسمعه أحد غيرنا. وهذا، ربما، هو أول شكل من أشكال العناية الحقيقية بالنفس: أن نتحدث إليها كما نتمنى أن يحدثنا الآخرون، وأن نُصغي لها… قبل أن تصرخ من التعب بصوت لا يُسمع.