كنتُ أشعر دائمًا أنني تحت المراقبة، حتى وأنا وحدي. أنني أؤدّي، وأبرّر، وأختار ملابسي وكلماتي وطريقة جلوسي كما لو أن ثمة قاعة محكمة خفيّة تنظر إليّ وتحكم. لم أكن جبانًا، لكنني كنتُ حذرًا إلى درجة الشلل. أن تقول، أن تتحرك، أن تضحك، أن ترتبك… كل شيء كان يستدعي مراجعة داخلية: “هل هذا مقبول؟ هل يبدو جيدًا؟ هل يليق؟”
ثم انهار كل ذلك. لا ببطولة، بل بخيبة. خيبة متكرّرة من محاولة إرضاء الجميع، من صمتي في كل موقف شعرتُ فيه أنني تخلّيت عن نفسي فقط كي لا أُنتقَد. وحين انكسر شيء بداخلي، وخرج صوتي أخيرًا، لم يكن حادًّا ولا غاضبًا، بل كان بسيطًا: “أنا تعبت.”
تلك اللحظة، بوضوحها الخام، كانت ولادة ثانية.
علم النفس الاجتماعي يُسمّي هذا التحوّل “الخروج من وهم المراقب“، حيث يدرك الإنسان أن الآخرين ليسوا منشغلين به كما يتخيّل. في دراسة أجراها Thomas Gilovich عن “تأثير تسليط الضوء”، طُلب من المشاركين ارتداء قمصان غير مريحة والدخول إلى غرفة مزدحمة. الغالبية ظنّوا أن الجميع لاحظوا قمصانهم، لكن الواقع أن قلّة فقط انتبهت. الناس، ببساطة، مشغولون بأنفسهم.
لكن الأهم من ذلك أن هذا الوهم لا يُخلق وحده، بل يُبنى منذ الطفولة. حين نُربّى على “إوعى الناس تقول عنك كذا”، و”البنت ما يصحّش تعمل كذا”، و”الراجل ما يعيّطش”، يتكوّن لدينا وعي زائف بذواتنا، مبنيّ على رد فعل خارجي، لا على شعور داخلي.
“الولادة الثانية ليست هروبًا من المجتمع، بل مصالحة مع الذات قبل أن تُسجَن في قوالب الآخرين“
في هذه الولادة، لا تعود تبحث عن إعجاب كل من حولك، بل تبحث عن لحظة صدق: أن تلبس ما ترتاح فيه، أن ترد كما تشعر، أن تصمت لأنك لا تملك شيئًا تقوله، لا لأنك خائف أن تُخطئ.
وهنا تظهر المفارقة: حين نتوقف عن إقناع الناس، يبدأون في الاحترام. لا لأننا أصبحنا مثاليين، بل لأننا أصبحنا واضحين. الشخصية الواضحة لا تحتاج إلى شرح، هي ترتاح من الداخل، وتُريح من حولها.
في كتاب The Gifts of Imperfection، تقول Brené Brown إن الشجاعة لا تعني الصراخ، بل تعني أن تظهر كما أنت، دون أن تعرف إن كنت ستُقبَل أم لا. أن تخلع درع التوقّعات، وتعيش في جسدك أنت، لا في خيالات الآخرين عنك.
المجتمع لا يرحم. هذا صحيح. لكنه أيضًا يملّ، من تكرار الصور، من الأداء المزيّف، من الناس الذين يتشابهون لأنهم جميعًا خائفون. وما ينجو فعلاً، هو من استطاع أن يكون له نبرة، وضحكة، ومساحة لا تُشبه أحدًا.
لكن كيف نصل إلى هذه اللحظة؟
أولًا، بالخذلان. لا أحد يتحرّر من الخوف دون أن يُخيَّب ظنّه في القبول. حين تفعل ما عليك وتُهاجَم، حين تحاول أن تكون جيّدًا ويُساء فهمك، في لحظات كهذه، ينهار النظام القديم، وتبدأ في بناء ولادتك.
ثانيًا، بالمراقبة العكسيّة. راقِب من تراقبهم. هل تراهم دائمًا مثاليين؟ هل يبدون لك بهذا التماسك الذي تتصوّره؟ ستكتشف أن أغلب الناس يتحرّكون بذُعر داخلي، وأن كثيرًا مما تظنه نقدًا هو في الحقيقة خوف، مثلك تمامًا.
ثالثًا، بالمجازفة. قُل جملة تخشاها، ارتدِ ما تحب، اضحك دون أن تتأكّد من أن الجميع يضحك معك. لا تنتظر أن تشعر بالثقة، بل افعل، ثم لاحقًا ستأتيك. الثقة لا تسبق الفعل، بل تُبنى بعده.
ورابعًا، بالتكرار. كل مرة تخرج فيها من دور الممثّل، يضعف ذلك الدور. وكلما صمتّ عن تبرير وجودك، ازداد وجودك وضوحًا.
الولادة الثانية لا تعني أنك أصبحت لا تُبالي، بل أنك أصبحت تختار أين تُبالي، ولمن تعطي صوتك، ومَن تُبقيه في مرآتك. أن تقول: “أنا هنا، ولست نسخة من أحد.”
وهذا، بحد ذاته، يكفي لتبدأ حياة حقيقية.