الثامنة صباحًا
٨٩٦ كلمة
٠ تعليق

يحلل الدماغ البشري كمية كبيرة من المعلومات في وقت قصير جدا، ويتخذ قرارات تبدو لحظية والأهم أنه يمتلك القدرة على الحدس والتوقع.. إن حركة بسيطة سلسة للاعب كرة قدم قد تُعجِز أعظم الكمبيوترات وقد تغرقه في كمية مهولة من المعادلات الرياضية والحسابات المعقدة.

يتكون الدماغ البشري من مائة بليون خلية عصبية، ويحتوي السنتيمتر المكعب الواحد على تريليون تشابك عصبي. والأهم أن الدماغ يؤدي كل هذه الوظائف مستهلكًا كمية لا تكاد تذكر من الطاقة وبذاكرة تكاد أن تكون سعتها بلا حدود!

هل من المحتمل أن يتمكن جهاز كمبيوتر من أن يحاكي دماغ البشر في يوم من الأيام؟

قد يقول البعض إن أجهزة الكمبيوتر تتفوق بالفعل على البشر، تستطيع أن تجري حسابات في أوقات قصيرة للغاية وصار باستطاعتها مؤخرا التعرف على أنماط يعجز البشر عن إدراكها، تمكنهم من صناعة الصور والنصوص ببراعة شديدة بل والتعرف عليها وتصنيفها في أجزاء من الثانية. هذا عظيم بالتأكيد لكنه أمر يختلف تماما عما نقصده بمحاكاة أدمغة البشر.

لا يعرف الكمبيوتر البديهيات ما لم نغذِه بها. لا يستطيع الكمبيوتر أن يتخذ قرارا ولا أن يصحح خطأ في برمجته ولا أن يحاكم أفكاره ويراجع تصرفاته. يرى البعض أنه لا يمكننا بأي حال أن نشبه الدماغ البشري بالكمبيوتر لأنه يختلف عنه تماما وحتى اللحظة لا نستطيع أن نفكك شفرته بالشكل الكافي أو نتعرف على الطريقة التي تتم بها أغلب وظائفه، ويرون أننا لو أردنا أن نفهم عنه وعن خواص مثل الوعي والنوم لا يجب أن نقاربه باعتباره جهاز كمبيوتر أعظم بمراحل من أي كمبيوتر عرفناه ولكن علينا أن نقاربه بشكل مختلف، ابتداء من سلوكيات البشر وكيفية تحكم الدماغ فيها.

مشروع الدماغ البشري

تتمثل إحدى أهم المعوقات في محاكاة أجهزة الكمبيوتر للدماغ البشري فيما يُعرَف باسم معضلة الوعي الصعبة. نتعرف جميعا بسهولة على الألوان ونعرف الأجسام الصلبة من اللينة وندرك الحلو من المر ونفرق بين الصوت الجميل والقبيح.. لكن المحاكاة لا يمكنها أن تلم بهذه الخبرات.. ربما نتمكن من محاكاة السيال العصبي والنبضات الكهربية التي تتحرك بداخل الدماغ، ربما نقلد المواد الكيميائية التي تتولد في الدماغ وأثرها لكن كل ذلك لا يعرف اللون الأحمر والمذاق اللاذع والصوت الذي يُطرِب، لا نستطيع تشفير هذه المعلومات لأننا لا نعرف معناها، قد نُجمع عليها لكننا لا نعرف ماهيتها.. جرب أن تصف لأحدهم ما اللون الأحمر؟ لن تستطيع لأن اللون خبرة ذاتية حسية، لا نعرف حتى الآن كيف ننقلها أو نحاكيها!

إلا أن كل هذه المعوقات التي تحيط بالموضوع لم تردع الإنسان عن تجريب الفكرة، محاولة فهم الدماغ وكشف أسراره عن طريق استخدام أجهزة كمبيوتر فائقة تحاكي عمل الدماغ.

أعلن الاتحاد الأوروبي عن تمويله لهذه الفكرة التي احتاجت إلى ما يزيد عن ٥٠٠ عالِم و٦٠٠ مليون يورو من أجل محاكاة العقل البشري باستخدام أجهزة كمبيوتر فائقة في مشروع بحثي مدته عشرة سنوات، بدأ في ٢٠١٣، مشروع يوظف العلوم العصبية وعلوم الذكاء الصناعي من أجل هدف يبدو مستحيلا، فهم الدماغ البشري

في الحقيقة لم يكن مشروع الاتحاد الأوروبي هو المشروع الوحيد، لكنه المشروع الذي جنى ثماره بالفعل. في الوقت الذي بدأ فيه مشروع الاتحاد الأوروبي، بدأ كذلك مشروع أمريكي وآخر ياباني، سيستمر المشروع الأمريكي حتى عام ٢٠٢٦، والمشروع الياباني حتى عام ٢٠٢٨. تمتلك كوريا الجنوبية وأستراليا مشروعين، بلغا عامهما السابع، وكذلك بدأت الصين مشروعا شبيها في عام ٢٠٢١.

نجاحات ضخمة وإخفاق متوقع

وكما توقع الكثيرون لم ينجح المشروع فعليا في محاكاة الدماغ البشري بصورة كاملة، أشاروا إلى أنهم لا يرون الدماغ البشري الكامل في نتائج المشروع أو في آلاف الأوراق البحثية التي نُشِرت بل مجرد معلومات جزئية جديدة عنه، كولاچ لا يكشف عن صورة كاملة واضحة!

إلا أن المشروع بالرغم من ذلك حقق أهدافا عظيمة بالرغم من فشله في تحقيق هدفه الأساسي الطموح. نجح المشروع في رسم خريطة ثلاثية الأبعاد للدماغ، خريطة ربما نشبهها بخرائط جوجل مابس، تمكنك من التجول في أنحاء الدماغ. تضم ما يزيد عن ٢٠٠ منطقة دماغية، أطلس يصور تنظيم المخ متعدد المستويات، ابتداء من البنية الخلوية والجزيئية حتى الوحدات الوظيفية والاتصالات فيما بينها. نجح المشروع كذلك في تحديد ستة مراكز دماغية لم تكن معروفة من قبل، تساهم في وظائف متعلقة بالذاكرة واللغة والانتباه ومعالجة الموسيقى.

لم تقف النجاحات عند ذلك، بل كان للمشروع تطبيقاته العملية عن طريق ما يُعرف باسم (التوائم الرقمية) digital twins. والتوائم الرقمية هي نماذج رقمية تمثل أدمغة أشخاص محددين، عن طريق دمج نتائج المسح الدماغي لهؤلاء الأشخاص فيها. استُخدِمت هذه النماذج من أجل تحسين علاجات الصرع والشلل الرعاش.

لم يتخلَ مشروع الدماغ البشري عن هدفه الأساسي كذلك، إذ حاول بناء أنظمة حوسبية تتخذ من الدماغ نموذجا لها. أنشأ علماء مشروع الدماغ البشري شبكات عصبية تحاكي أنظمة تشبه أنظمة الدماغ من أجل هدفين رئيسيين، اختبار بعض تصوراتنا عن عمل الدماغ في محاولة لإثباتها أو نفيها، والتحكم في أجهزة أخرى مثل الروبوتات والتليفونات الذكية.

ربما ما نزال بعيدين بالفعل عن فهم كامل لعمل الدماغ البشري، أحد أكبر أسرار الكون وأعقدها. وربما كانت البيانات التي حصل عليها مشروع الدماغ البشري متشظية ومنفصلة ومتباعدة، بحاجة إلى المزيد من العمل الطويل ومحاولة ربطها ببعضها البعض وتطويرها.. وربما نحتاج إلى طريقة أكثر إبداعا ومختلفة تماما عما نفعل من أجل مقاربة الموضوع، إلا أن هذا كله لا ينفي أبدا أهمية ما توصل إليه المشروع ولا يمكن بأي حال أن يثبط طموحنا البشري الذي يجد طوال الوقت في طلب ما يبدو مستحيلا!

المصادر

https://press.princeton.edu/ideas/is-the-human-brain-a-biological-computer

https://www.tutorialspoint.com/difference-between-brain-and-computer#

http://www.scholarpedia.org/article/Hard_problem_of_consciousness

https://www.nature.com/articles/d41586-023-02600-x

https://www.fz-juelich.de/en/research/information-and-the-brain/hbp

https://hackernoon.com/neuroscience-the-conceptual-failure-of-eus-human-brain-project-and-the-us-brain-initiative

https://www.technologyreview.com/2021/08/25/1032133/big-science-human-brain-failure

شارك هذا الـمقال