كل شيء بدأ من المنبّه.
كان من المفترض أن أستيقظ في التاسعة لأبدأ تقريرًا متأخرًا. أطفأت المنبّه، وتمددت لثانية واحدة، فوجدتني بعد ساعة أقرأ مراجعات عن أفضل أنواع القهوة الباردة لعام 2023. لم أكن أحتاج القهوة، بل عذرًا لأبقى هناك، في المسافة الضبابية بين الفعل والنسيان. حين أدركت كم تأخرت، فتحت اللابتوب. مررت على أيقونة البريد الإلكتروني، ثم على تويتر، ثم على إشعار من تطبيق طقس لم أستخدمه من شهرين. قمت فجأة، مشيت في الغرفة، قرأت عنوان كتاب لم أفتحه منذ سنوات، ثم رجعت وجلست أمام الشاشة. بعد 4 ساعات، ما زالت الصفحة بيضاء.
عقلي ليس فارغًا.
هو، على العكس، مشغول جدًّا، مزدحم إلى حد الاختناق. فقط، لا يوجد فيه شخص واحد يُصدر الأوامر. بل خمسة مهرّجين، يلعب كلٌّ منهم لعبته، ويصرخ من زاويته، ويقترح فكرة رائعة كل عشر ثوانٍ، ثم يتركها قبل أن تكتمل. هذا، باختصار، هو اضطراب نقص الانتباه (ADD). لا يعني أنك لا تنتبه. بل أنك تنتبه إلى كل شيء… عدا الشيء الذي ينبغي أن تنتبه له.
المشكلة أن هذا النوع من الفوضى لا يُرى من الخارج.
لا أحد يسمع السيرك. يرون فقط أنك نسيت، أو أنك تؤجل، أو أنك تشتت. فتبدو حياتك مثل سلسلة طويلة من الأعذار، رغم أنها من الداخل: مقاومة يومية، ومفاوضة مرهقة مع دماغ يعمل بنسخة نظام لا يفهمها أحد سواك. في البداية، حاولتُ أن أُصلح نفسي من الداخل. قلت: سأكون أكثر التزامًا. سأكتب جداول. سأضع أهدافًا. لكني كنت أضع قائمة مهام على موبايل يسرق انتباهي كل 3 دقائق، وأعمل على مكتب تتراكم عليه الفواتير، وتغمره أكواب نصف ممتلئة. النتيجة؟ إرهاق مضاعف، وتأنيب أقسى. ثم انتبهت لحقيقة بسيطة: الدماغ المصاب بـADD لا يستجيب للنوايا المجردة، بل للبيئة التي يعيش فيها.
في علم النفس التنفيذي، يسمّون هذا “الدفع البيئي” (environmental scaffolding).
أي أن تبني حول دماغك بنية خارجية تساعده على أداء ما لا يفعله تلقائيًا. وكأنك تفرش له طريقًا ضيقًا لا يملك فيه إلا أن يمشي. جربت أن أبدأ من الأشياء الصغيرة:
• أخرجت هاتفي من الغرفة أثناء الكتابة، لا لأني منضبط، بل لأني لا أريد أن أراهن على انتباهي.
• استخدمت مؤقتًا لاختيار فترات تركيز: 25 دقيقة عمل، 5 دقائق عبث مشروع. أسمّيه “اتفاق الهدنة مع السيرك”.
• تركت ورقة مطبوعة بجانب اللابتوب فيها 3 مهام فقط. لا 12، لا 7. فقط 3.
• عيّنت وقتًا ثابتًا يوميًّا للبدء، لا لأنه مثالي، بل لأن البدء في التوقيت نفسه يقلل التفاوض الداخلي.
حين أفعل هذه الأشياء، لا يصبح التركيز سهلاً. لكنه يصبح ممكنًا. والإمكان، في عالم ADD، انتصار.
ليس هذا تنظيرًا. بل هندسة.
الذين لا يعرفون هذا الاضطراب يتعاملون مع التركيز كخيط يُشد من الرأس. لكننا نعرف أنه يُشد من الخارج. من الضوء، من المقعد، من صوت المروحة، من غياب الهاتف، من كوب الشاي المألوف. لهذا، البيئة ليست رفاهية تنظيمية. بل ضرورة علاجية.
في مرة، علّقت ورقة على الحائط بجوار المكتب كُتب عليها:
“لا يوجد شيء اسمه وقت مناسب. يوجد فقط مكان مجهّز.”
كنتُ قد قرأتها في كتاب عن التنظيم السلوكي لمرضى ADHD، ولمست شيئًا حقيقيًّا في داخلي: أنني لا أنتظر الظروف، بل أجهّزها. وهذا وحده تغيير جوهري. لأن ADD ليس مرضًا يظهر فقط حين لا تعمل. إنه حاضر في طريقة ترتيبك لملابسك، في نسيانك لأسماء الأشخاص، في تركك لفواتير على حافة الطاولة حتى تتحول إلى أزمة. هو ليس لحظة الفشل، بل الغيمة التي تسبقها، والركض المتوتر الذي يليها. ولهذا، أي تعديل صغير في المحيط، هو انتصار على المستقبل المحتمل للفوضى.
أحد الأصدقاء سألني مرة: “يعني إنت ما تقدر تلتزم من غير أدوات؟ من غير طقوس؟ من غير مؤقت وسماعات وتطبيق؟”
كان صادقًا، ومتسائلًا، ونصف ساخر. أجبته، بعد لحظة صمت، بشيء فاجأني أنا شخصيًّا:
“أنا مش بأستخدمهم عشان ألتزم.
بأستخدمهم عشان أشتغل وأعيش رغم إني مش منتظم بطبيعتي.”
نحن لا نخترع هذه الأنظمة لنصبح عبيدًا لها. بل كي لا نكون عبيدًا لتقلباتنا.
تقول ورقة بحثية نُشرت في Psychiatry Research عام 2021، إن أهم مؤشّر على التقدّم في إدارة ADD ليس فقط تقليل الأعراض، بل القدرة على “تشكيل بيئة متوافقة مع الوظائف التنفيذية المتغيرة”.
أي أن الشخص لا يُشفى، بل يتعلّم أن يعيش في ظروف تُعفيه من الشفاء الكامل. وهذا، في ذاته، استبصار مهم. أن الهدف ليس أن تصبح شخصًا آخر. بل أن تُصبح أنت، في نسخة يمكنها أن تعمل، وتنتج، وتستمتع، دون أن تنهار بعد كل مهمة بسيطة.
في النهاية، لا أملك إجابات نهائية، ولا أدوات سحرية.
لكنني أملك تجربتي. وأملك يقيني بأنني كلما احترمت حدود عقلي، أعطاني هو بدوره لحظة تركيز نادرة، لحظة تشبه الفتحة في خيمة السيرك، حيث تتسلل منها أشعة الصباح، وتغمر كل شيء بداخله بنور مؤقت. حين أكتب في هذه اللحظة، أشعر أنني أستطيع النجاة. لا بعبور العاصفة، بل بصناعة خيمة. بإغلاق النوافذ. بوضع علامة “ممنوع الإزعاج” على باب عقلي. وبالبدء. دائمًا، بالبدء.