الرابعة صباحًا
٥١١ كلمة
٠ تعليق

عن الومضات العابرة التي تومض في العقل وتختفي… وكيف نجعلها تبقى

الفكرة لا تصل في موعدها. تأتيك وأنت تستحم، أو تقود، أو تهمّ بالنوم. تومض ثم تختفي، كما لو أن العقل يفتح نافذة صغيرة للحظة واحدة فقط، ويغلقها قبل أن تسأل: ما هذا؟ نسميها “خاطرة” أو “لمعة”، أو حتى “أحلام يقظة” إذا كانت مشبعة بالصور والرغبات. لكن المشكلة أن أكثر هذه اللحظات لا تُوثَّق. نتذكرها حينًا، ثم نلهو عنها. وفي المساء، نحاول أن نسترجعها، فنجدها قد تبخرت. فكيف يمكن أن نصطاد هذه الومضات؟ كيف نحفظ أفكارنا، لا كمقالات ناضجة، بل كبذور خام، قابلة للنمو؟

في التراث الإسلامي، هناك كتاب كلاسيكي اسمه “صيد الخاطر” لابن الجوزي، كتبه كما يقول، ليجمع فيه كل ما يمر على عقله من تأملات لا يريد أن يضيعها. ما يميزه ليس اتساقه، بل تلقائيته. خواطر تُكتب كما خطرت، غير مصقولة أحيانًا، لكن صادقة، وخفيفة، وموحية. وهذا الكتاب بقي حتى اليوم حيًّا، لأنه لم ينتظر أن يكتمل. بل كُتب لأن صاحبه كان يؤمن أن الفكرة العابرة إذا لم تُكتب… ماتت.

في علم الأعصاب، هناك ما يُعرف بـ Default Mode Network — وهي شبكة الدماغ التي تنشط حين نكون “في اللاشيء”: نتأمل، نستحم، نقود، ننتظر. هي اللحظات التي لا نكون فيها مشغولين بمهمة واضحة، فتنشط هذه الشبكة، وتبدأ الأفكار في التدفق. المشكلة أنها تأتي بلا سياق، ومن دون ترتيب، وتتلاشى إذا لم نُوقفها بشيء: الكتابة.

علم النفس الإبداعي يُفرق بين نوعين من التفكير:

  1. التفكير التقاربي: وهو تفكير حلّ المشكلات.

  2. التفكير التباعدي: وهو تفكير التخيل والربط غير المتوقع — وهو الذي يولد في أحلام اليقظة.
    وحين نحاول أن نضغط على دماغنا ليُفكّر “بشكل إبداعي”، غالبًا نفشل. لأن الخيال لا يعمل بالإكراه. بل بالانتباه الهامشي، والاستعداد لاستقبال الفكرة حين تأتي… لا استدعائها بالقوة.

فكيف نصطاد الخاطر إذًا؟

أولًا: احمل أداة تسجيلك معك دائمًا. دفتر صغير، تطبيق ملاحظات، مسجّل صوتي. لا تنتظر أن تعود للبيت لتدوّن. الفكرة لا تنتظرك. وما لا يُكتب فورًا، يذوب.

ثانيًا: دوّن بصيغة خام، لا أنيقة. لا تبدأ تنسيق الفكرة أو فلترتها. اكتبها كما جاءت. بكلامك، بلغتك، بانفعالها. الفكرة كائن هشّ، و”التهذيب المبكر” قد يُجهضها.

ثالثًا: خصص وقتًا لاسترجاع الخواطر. كل أسبوع، مرّ على ما كتبت. اقرأه كما تقرأ رسائل شخص آخر. ستجد ما يصلح لتطوير مقال، أو فكرة مشروع، أو حتى فهم جديد لذاتك. صيد الخاطر لا يكتمل لحظة الصيد… بل لحظة المراجعة.

لكن ماذا عن أحلام اليقظة؟ أليست تضييعًا للوقت؟

ليس بالضرورة. في دراسة من جامعة كاليفورنيا، وُجد أن أحلام اليقظة — خصوصًا لدى المبدعين — تُعدّ بيئة خصبة للتخيل، وبناء السيناريوهات، و”بروفات داخلية” للتفاعل مع الحياة. لكن الفرق بين أحلام يقظة مفيدة وأخرى ضارة هو: هل تراها كمساحة إنتاج؟ أم كمهرب دائم؟ إذا كنت ترى فيها خريطة داخلية لتصوراتك، فدَوِّن منها ما يلمع. اكتب الشخصيات، الصور، المشاهد. فكثير من الروايات والاختراعات بدأت من “سيناريو متخيل” وُلد في لحظة شرود.

نحن لا نعاني من قلة الأفكار… بل من سوء صيانتها.

العقل ليس فقيرًا، لكنه سريع التبدد. وكل فكرة لا نلتقطها، تذهب لغيرنا — أو تضيع إلى الأبد. الفكرة لا تحتاج إلى إلهام. بل إلى عين تلتقط، ويد تكتب، ونية في الاستماع لما يقوله اللاوعي حين نُسكت العالم. اصطد خواطرك، لا لأنها عظيمة، بل لأنها منك، وما يُكتب منك الآن.. قد يصبح ما يفتح لك غدًا.

شارك هذا الـمقال