لم يكن أحد يعلّمنا التفكير في المال.
كان المال موجودًا إما كمشكلة — تُقالس الناس تحت ضغطها، أو كمحظور — لا يُسأل عنه أمام الكبار. في البيت، كان الحديث عن الراتب نوعًا من الإهانة، والشكوى من الأسعار ضعفًا، والطلب المباشر نوعًا من قلة الذوق. وفي المدرسة، كان المال يظهر فقط في القصص: الرجل البخيل، التاجر الأمين، الفقير الشريف.
ثم نخرج إلى العالم، ونتوقع أن نكون “عقلانيين ماليًا”، أن ندير دخلاً، ونخطط للادخار، ونفهم الأصول والديون والاستثمار… كأننا لم نقضِ عمرنا الأول نتعلم أن المال موضوع سيئ السمعة.
العقل الاقتصادي ليس شيئًا يُولد معنا.
هو عدسة نطوّرها لفهم الواقع المالي من حولنا، واتخاذ قرارات تخدمنا على المدى الطويل. وما لم نعد بناء هذه العدسة من جذورها، سنبقى نتأرجح بين الإفراط في الصرف بدافع اللذة أو الاستهلاك، أو التقتير بدافع الخوف ونقص الأمان. والبداية — كما فهمت متأخرًا — لا تكون من الأرقام، بل من المشاعر.
في علم الاقتصاد السلوكي (Behavioral Economics)، هناك ما يُعرف باسم “التحيّزات المعرفية” التي تؤثر على قراراتنا المالية.
مثلًا:
-
النفور من الخسارة (Loss Aversion): نحن نكره الخسارة أكثر مما نحب الربح. خسارة 100 دولار تُشعرنا بألم أكبر من سعادة ربح 100 دولار. ولهذا نتجنب المخاطرة، حتى لو كانت معقولة.
-
الخصم الآني (Present Bias): نفضل مكافأة صغيرة الآن على مكافأة أكبر لاحقًا. ولهذا يصعب علينا الادخار، ونختار القهوة الفاخرة بدلًا من حساب التوفير.
-
وهم السيطرة: نعتقد أننا نفهم السوق أكثر مما نفهمه فعلًا، فنستثمر عشوائيًا، أو نرفض النصيحة.
هذه التحيّزات ليست “عيوبًا فينا”، بل أنماط بشرية طبيعية. لكن إدراكها هو الخطوة الأولى لبناء عقل اقتصادي أكثر وعيًا.
بعد أول راتب جيد حصلت عليه، فعلت ما يفعله كثيرون: اشتريت شيئًا لا أحتاجه. ثم شيئًا آخر. ثم احتفلت لأنني “أستحق” بعد شهور من الضغط. ثم انتهى المال، وبدأت أفكر: لماذا لا تكفي الفلوس أبدًا؟ كنت أتعامل مع المال كأنه مكافأة عاطفية، لا كأداة استراتيجية. كأن الغرض من المال هو أن يُنفق كي أرتاح. ولم أفكر يومًا في المال على أنه طاقة محفوظة، يمكن إعادة استخدامها لاحقًا، في وقت أكثر احتياجًا.
كان هذا أول تغيير في تفكيري: أن المال ليس لحظة. بل مساحة زمنية. وأن كل جنيه لا أُنفقه اليوم، هو “يوم محتمل” أشتريه لنفسي في المستقبل.
ثم بدأت أفهم مفاتيح أخرى للعقل الاقتصادي. ولعل أهمها:
-
كل قرار مالي هو قرار قيمي، قبل أن يكون حسابيًا.
حين تشتري شيئًا، فأنت لا تدفع ثمنه فقط. بل تقول لنفسك: هذا ما أُعطيه من وقتي، وجهدي، ومستقبلي. هل يستحق؟
-
الفرق بين الثمن والقيمة.
قميص سعره 500 جنيه قد يبدو مكلفًا، لكنه يدوم 3 سنوات، ويشعرك بالثقة، ويُلبَس في مناسبات. بينما وجبة توصيل بـ150 جنيهًا تنتهي خلال ساعة. العقل الاقتصادي لا ينظر إلى الرقم فقط، بل إلى “القيمة المتبقية”.
-
المال ليس هدفًا، بل وسيلة لعيش الحياة كما تراها أنت.
لا بأس أن تنفق بسخاء على الكتب أو السفر أو التعليم، إذا كانت هذه هي الأشياء التي تصنع عالمك. لكن أن تفعلها لتبدو “غنيًا” أو “ناجحًا” هو الطريق الأقصر للإفلاس – المالي والمعنوي معًا.
-
الادخار ليس بُخلًا، بل تعبير عن حب الذات المستقبلية.
أن تدخر ليس لأنك خائف، بل لأنك تحب نسخة منك لم تولد بعد، وتريد أن تسندها حين تصل.