في بداية العلاقة، كنا نبحث عن الإثارة في كل لحظة: كل كلمة جديدة كانت اكتشافًا، كل لمسة كانت حدثًا، وكل صمتٍ بيننا كان مشحونًا بالانتظار. كنا نعيش في ذروة الحضور، نترقب ونندهش ونكرر السؤال ذاته بأشكال مختلفة: “هل يحبني حقًا؟” ثم بدأت الأيام تتراكم. صار الحضور مضمونًا، والإجابات مفهومة، والدهشة نادرة. بدأنا نعيش ما يُسمّى بالروتين.
في ثقافتنا، حين نقول إن علاقة دخلت مرحلة “الروتين”، فإننا نقول ذلك بنبرة تراجع. كأننا نعتذر. كأن الحب يجب أن يبقى مشتعلًا، جديدًا، مفاجئًا، أو أنه يفقد قيمته. لكن، ماذا لو كان الروتين ليس عدو الحب بل شكله الحقيقي حين يهدأ؟ ماذا لو كان الملل، لا كعلامة فراغ بل كمساحة أمان، هو ما يُبقي العلاقة حيّة؟
علم النفس العاطفي يفرّق بين نوعين من الحب:
الأول هو الحب القائم على الاندفاع (passionate love) والمليء بالشغف والقلق والإثارة. لكنه لا يصمد وحده.
أما الثاني فهو الحب القائم على الأمان والرفقة (companionate love)، هادئ، لا يثير القصص لكنه يبني البيوت.
في كتابه “فن الحب”، يقول إريك فروم إن الحب ليس شعورًا نقع فيه بل فعل نمارسه. لا يُختبر في لحظة الانجذاب، بل في قدرتنا على أن نختار الآخر حين لا يعود جديدًا. وحين تصبح العلاقة جزءًا من حياة يومية مليئة بالضغط والضجر، لا ينجو منها إلا من تعلّم أن يصنع الدفء من داخل العادي.
في أحد أبحاث John Gottman، وُجد أن الأزواج الذين يخصصون حتى خمس دقائق يومية لمحادثة صادقة، يشعرون برضا أكبر من أولئك الذين يعيشون علاقات أكثر إثارة. الطقوس البسيطة، مثل السؤال عن تفاصيل اليوم أو إعداد القهوة لشخص نحبه، ليست تفاصيل، بل هي البنية التحتية للعلاقة. ليست الرومانسية في الحفلات بل في ملامسة الكتف أثناء غسل الصحون.
وفي كتاب “Mating in Captivity”، تشير إستر بيريل إلى أن الرغبة لا تموت بالروتين بل باللامبالاة. الروتين ليس خصمًا، بل خامة يمكن تشكيلها. الملل لا يُخيف إلا من ينتظر من الحب أن يُبهره كل يوم، بينما هو أحيانًا لا يريد سوى أن يُحتمل.
آلان دو بوتون، في روايته/تأمله “دورة الحب”، يروي قصة زواج بكل مللها، تفاصيلها، صراعاتها الصامتة. ويرى أن اختبار الحب الحقيقي لا يحدث حين نُفتن، بل حين نُكرّر: أن نغلق النور كل ليلة، أن نغسل الأطباق، أن نخبر الآخر عن صداعنا دون خجل. فكيف نحيا هذا النوع من الحب؟ كيف نحبّ داخل حياة فيها فواتير، وبريد إلكتروني، وتعب، وصداع، ورغبة في الصمت؟
ربما نحتاج إلى إعادة تعريف “الحميمية”. أن نراها لا كلحظة انفعال، بل كعادة. أن نمنح علاقتنا طقوسًا صغيرة، مثل رسالة صباحية دون مناسبة، أو لحظة صمت نختار أن نقضيها معًا.
أحد الأصدقاء قال لي: “أحبّ شريكتي أكثر حين لا نتكلّم.” في البداية ظننت أنه يبالغ. لكنني فهمت لاحقًا أنه كان يتحدث عن الراحة: أن تستطيع أن تكون مع من تحب دون أداء، دون محاولة لإثبات شيء.
العلاقات التي تصمد ليست تلك التي تعرف كيف تتفادى الملل، بل تلك التي تعرف كيف تمرّ به دون أن تفقد اتصالها. كل ما في الأمر أننا لا نتدرّب على ذلك. ننتظر من الحب أن يبقى جديدًا، وأن يقاوم التكرار، فنُصدم حين يتحوّل إلى إيقاع. لكن في الحقيقة، حتى الأغاني التي نحبها نُحبها لأنها تُكرّر. الحب الذي ينجو هو الذي يصبح صوتًا مألوفًا لا نريد أن نتخلص منه، لا لأنه يُفاجئنا، بل لأنه يُشبهنا.
الطقوس اليومية لا تقتل الحب، بل تُؤنسنه. تجعل منه كائنًا ينام ويصحو، لا فكرة طائرة في الهواء. الرسائل الصباحية، إعداد الشاي، السؤال عن الظهر، تمشية قصيرة، حتى الصمت أمام شاشة واحدة… هذه ليست بدائل عن الحب، بل طريقته في الاستمرار.
ربما نحتاج فقط أن نتصالح مع هذه الفكرة: أن نحبّ ليس أن نُبهر، بل أن نَصبر. أن نَعرف الآخر ونظل نختاره. أن نمرّ معه بلحظات فراغ لا نريد أن نهرب منها، بل نريد فقط أن نقضيها معًا. بلا قلق. بلا إنجاز. بلا جديد. بلا أكثر.
في كتب مثل “فن الحب”، و”دورة الحب”، و”Mating in Captivity”، تظهر فكرة متكررة: أن العلاقات العميقة لا تُبنى على ما نفعله حين نكون في أفضل حالاتنا، بل على ما نختاره حين نكون في أسوأها. وهنا تأتي الممارسات التي لا تبدو مثيرة، لكنها تغيّر شيئًا حقيقيًا في العلاقة.
نحتاج إلى لحظة دورية نُسمّي فيها ما لا يُقال عادة. لا هدف من هذه اللحظة سوى الاعتراف: شعور بالخوف، أو بانطفاء، أو حتى بحنين إلى ما لم يعد يحدث. ما يُسمّى لا يتحول إلى سمّ صامت.
من وقت لآخر، فلنمنح أحدنا فرصة للحديث دون مقاطعة أو تعليق. الإصغاء الكامل، دون نبرة تحليل أو تقويم، هو واحد من أصدق أشكال القرب. إنه مساحة آمنة للصوت الداخلي.
ولكسر الرتابة دون أن نرتّب مناسبة، لنجرب فقط أن نغيّر سياقًا واحدًا: أن نأكل على الأرض بدل الطاولة. أن نمشي صامتين بدل الذهاب إلى المقهى. الملل لا يأتي من الفعل، بل من تكرار شكله.
لا بأس أن نمنح العلاقة مساحة تنفس. لا رسالة، لا اتصال، لا متابعة. ليس غضبًا ولا انسحابًا، بل تدريب على أن نشتاق دون تهديد. ربما نحتاج إلى كتابة الرسائل التي لا نجرؤ على قولها. نكتبها لا لنرسلها، بل لنُخرج بها ما لا يمكن ترتيبه شفهيًا. أحيانًا الكتابة تسبق الفهم.
ثم، كلما مضى وقت، فلنعد للسؤال: من نكون الآن؟ ما الذي تغيّر؟ وما الذي نحتاج لإعادة تسميته؟ العلاقات التي لا تعيد تعريف نفسها، تُصبح طقوسًا خاوية من المعنى.
لا بأس أن نعود أحيانًا إلى لحظة البدء. لا لنستعيدها، بل لننظر إليها ونقول: نعم، ما زلت أراك.