في معظم التصورات الحديثة عن الحب، خصوصًا كما تصوّره الأفلام والروايات، يتم تقديم الحب بوصفه لحظة مباغتة، حدثًا فريدًا، أو انجذابًا مفاجئًا لشخص “لا يُشبه الآخرين”. هذه الصورة، رغم سحرها، تُنتج حالة من التوقع المستمر: أن الحب لا يأتي إلا حين يكون الشخص الآخر غريبًا، لامعًا، مثيرًا للدهشة. لكن الأبحاث في علم النفس الاجتماعي والعاطفي تقدّم صورة مختلفة جذريًا.
في دراسة شهيرة نُشرت في Journal of Personality and Social Psychology، أظهرت النتائج أن العلاقات الأكثر استقرارًا وسعادة على المدى الطويل لم تبدأ بسبب “الاندهاش الأول”، بل بسبب صفات وُصفت من المشاركين بأنها “دفء، استقرار، وانتباه متبادل”. هذه الصفات لم تُدهش أصحابها في البداية، لكنها راكمت ثقة وشعورًا بالطمأنينة مع الوقت.
آلان دو بوتون، في تحليله للعلاقات، يشير إلى أن أكثر أوهامنا خطورة هو الاعتقاد بأن الحب شعور نادر يحدث بسبب تميّز خارق لدى الطرف الآخر. ويرى أن ما نظنه نادرًا هو غالبًا ما يُلفت انتباهنا فقط لأنه “لا يُشبهنا”. لكن الحب، كما يوضح، لا يُبنى على ما يُبهرنا، بل على ما يسمح لنا أن نكون أنفسنا دون ضغط.
من منظور نظرية التعلّق (Attachment Theory)، فإن الأشخاص ذوي نمط التعلّق الآمن غالبًا ما ينجذبون إلى شركاء يبدون عاديين في البداية، لأنهم يوفّرون شعورًا بـالثبات العاطفي، لا بـالمفاجأة المستمرة. في المقابل، من يعانون من نمط التعلّق القلق ينجذبون عادة إلى أشخاص غامضين أو متقلّبين، ظنًا منهم أن الغموض مرادف للعمق، بينما هو في الواقع إشارة إلى غياب الاتساق.
الرغبة في “الغريب المبهر” ترتبط جزئيًا بما يسميه علم النفس السلوكي: Novelty Bias — ميل أدمغتنا إلى منح الأشياء الجديدة اهتمامًا أكبر من الأشياء المألوفة، حتى لو لم تكن أفضل. هذه الظاهرة تجعل الشخص الذي يثير فضولنا يبدو أكثر جاذبية في البداية، لكن لا علاقة لهذا الجاذبية بـالتماسك العاطفي أو التوافق النفسي الحقيقي.
في كتاب The Science of Happily Ever After، يشير عالم النفس تايو ريس إلى أن الأشخاص الذين يضعون معايير “مبهرة” عند اختيار الشريك (مثل الجمال اللافت، أو الغموض، أو التفرد الشكلي) يكونون أكثر عرضة لـخيبة الأمل لاحقًا، لأن هذه الصفات لا تُترجم إلى مهارات عاطفية تضمن استمرارية العلاقة.
تجربة الاستقرار مع شخص يُصغي، يتذكّر ما تقول، يسأل قبل أن يحكم، لا تثير انفعالًا كبيرًا في البداية، لكنها – حسب الدراسات – ترتبط بـمعدلات أعلى من الرضا، ومن الحميمية على المدى الطويل. هذا ما يعبّر عنه عالم النفس ديفيد شنارخ بمفهوم “التقارب الهادئ”، أي القرب الذي لا يصاحبه دراما، بل صمت مُطمئن.
حتى في ثقافات غير غربية، مثل اليابان، توصلت دراسات إلى أن تصورات الحب التي تربط بين “الإثارة” و”العمق” ليست عالمية، بل متأثرة بـخطاب سينمائي وإعلامي محدد. في دراسة أُجريت على طلاب جامعيين يابانيين، وُجد أن 70٪ من المشاركين ربطوا بين الأمان العاطفي ونجاح العلاقة، بينما اعتبر فقط 12٪ أن “الغموض والجاذبية الشديدة” مؤشرات إيجابية.
إريك فروم، في كتابه فن الحب، يرى أن الحب نادرًا ما يبدأ بـفهم عميق للطرف الآخر، لكنه إما أن يتطور في اتجاه الاحترام والانتباه، أو أن يظل مجرد انفعال أولي يُستهلك سريعًا. ما يمنح الحب شكله الناضج ليس الشعور، بل العمل: أن نختار، أن نصغي، أن نعيد التعرف على الشخص نفسه في كل مرة، حتى حين يصبح مألوفًا.
إذا كنا نبحث عن علاقة تُشبه الحياة لا الحلم، فعلينا أن نلتفت لما هو عادي. الشخص الذي لا يُبهرنا في اللقاء الأول قد يكون هو من يفهم كيف نهدأ، لا كيف نرتبك. الشخص الذي لا يدهشنا في الرسائل قد يكون هو من لن يتركنا دون ردّ بعد الشجار.
ليس علينا أن نقتل الشغف. لكن ربما علينا أن نكفّ عن ملاحقته كما لو أنه المعيار الوحيد للحب. لأن ما يبدو عاديًا اليوم… قد يكون هو ما يصنع فرق الحياة غدًا.