⁠الخامسة عصرًا
٦٣١ كلمة
٠ تعليق

عن محاولاتي المرتبكة لترويض نفسي

في كل مرة أقرر فيها أن أتبنى عادة جديدة، أستحضر صورة قديمة في ذهني لرجل كان يتعلّم ركوب الدراجة للمرة الأولى. كان يمسك المقود بارتباك طفل، بينما قدماه تلامسان الأرض في توتر، يلتفت يمنة ويسرة، غير واثق من نفسه ولا من العيون المحيطة به. كنت أراقبه من الشرفة بدهشة لا تخلو من إعجاب خفي، وكنت أقول لنفسي: هذا الرجل شجاع جدًا. لم أكن أعلم أنني سأصبح مثله يومًا.

تعلّم عادة جديدة ليس كما يحدث في الصغر. في الصغر، نتعلم بالمصادفة، بالعدوى، بالمحاكاة، أو حتى تحت التهديد. أما حين تكبر، فأنت تدخل العادة الواحدة كما يدخل الناس البحر في الشتاء، خطوة خطوة، بحذر بارد، ومحاولة يائسة لإقناع النفس أن كل شيء على ما يرام.

مؤخرًا، قررت أن أتبنّى عادة الاستيقاظ المبكر. يبدو الأمر بسيطًا، لكنه ليس كذلك إذا كنت أؤمن في أعماقي أن الفجر مكان للمصلين فقط، وأن أول النهار وُجد ليُعاش في النوم. بدأت بالمثاليّات: كوب ماء دافئ بالليمون، نافذة مفتوحة، دفتر ملاحظات على الطاولة لأكتب فيه “تأملات الفجر”، لكن الحقيقة أنني كنت أقاوم بشراسة، عقلي يرفض الفكرة، وجسدي يتآمر عليه.

في محاولتي لتعلّم عادة، اكتشفت كم نحن مرتبطون بالعادات القديمة التي نخجل منها، لكن لا نملك مفاتيح التخلص منها. الاستيقاظ المبكر لم يكن مجرد توقيت، بل كان استدعاءً لمفاهيم أخرى: الانضباط، الصبر، الالتزام الذاتي. وكل هذه كلمات فخمة جدًا على من يقاوم زر الغفوة سبع مرات قبل أن يفتح عينه.

في لحظات قليلة ونادرة، حين أنجح فعلًا في الاستيقاظ، وأجلس مع كوب القهوة في صمت، أشعر وكأني التقطت شيئًا نادرًا، لحظة صفاء لم أكن أعرف أنها موجودة، وكأن النهار قرر أن يكافئني فقط لأني حضرته من بدايته.

قرأت ذات مرة في كتاب علمي أن بناء العادة لا يعتمد على قوة الإرادة بقدر ما يعتمد على ما يُسمى بـ”تكديس العادات” (habit stacking)، وهي فكرة طرحها جيمس كلير في كتابه العادات الذرية. الفكرة ببساطة أن تربط العادة الجديدة بعادة قديمة موجودة مسبقًا، كأن تقول: “بعد أن أفرش أسناني سأمارس تمارين التنفس”، أو “بعد فنجان القهوة سأقرأ صفحتين من كتاب”. بهذه الطريقة، لا تبدأ من الصفر، بل تستند إلى روتين قائم وتضيف إليه شيئًا صغيرًا، حتى يصبح جديدك جزءًا من مألوفك.

تلك الفكرة غيّرت نظرتي للمحاولة. لم أعد أحمّل نفسي عبء التغيير الكامل، بل أصبحت أبحث عن روابط ذكية، ممرات هادئة تقودني إلى العادة، دون ضجيج أو عنف. أصبحت أسأل نفسي: ما العادة التي تسبق هذه؟ ما الشعور الذي أريده بعدها؟ وكأنني أخطط لدخول منطقة نفسية جديدة، لا باندفاع، بل بخفة وحنكة.

في كثير من الأحيان، لا نحتاج إلى نظام صارم بقدر ما نحتاج إلى سبب شخصي واضح. لماذا أريد أن أمارس الرياضة يوميًا؟ لماذا أريد أن أقلل من الوقت الذي أقضيه على الهاتف؟ العادة التي تنبت من سؤال صادق تدوم أكثر من تلك التي نزرعها بدافع الشعور بالذنب أو المقارنة بالآخرين. لقد بدأت أسأل نفسي في كل محاولة: هل هذه العادة تُشبهني؟ هل تنسجم مع من أريد أن أكونه؟

وربما الأجمل أن تبني عادة لا لأنك تريد تغيير نفسك، بل لأنك تريد أن تقترب منها. تقترب من نسختك الأكثر انسجامًا، الأكثر هدوءًا، أو حتى الأكثر فضولًا تجاه الحياة. هذه ليست معركة للسيطرة، بل دعوة للرفق.

مع الوقت، بدأت أرى أن بناء العادة يشبه ترتيب أشياء البيت بعد فوضى عارمة. الأمر لا ينتهي في يوم، ولا يبدو مثاليًا منذ اللحظة الأولى، لكنه يخلق فرقًا يمكن الشعور به، لا رؤيته فقط. وقد يكون النجاح الوحيد الذي أحرزته في بعض الأيام هو أنني لم أستسلم تمامًا. وهذا يكفي أحيانًا.

العادة الجديدة ليست مجرد سلوك، بل هي تفاوض يومي بين القديم والجديد، بين ما اعتدت عليه، وما تطمح إليه. وفي هذا التفاوض، تخسر كثيرًا وتكسب قليلًا، لكن هذا القليل كفيل بأن يدفعك للمحاولة من جديد.

وربما لا يتعلق الأمر بالعمر، بل بالشجاعة. أن تقتحم عادة جديدة هو شكل ناعم من البطولة اليومية. والجميل أن المكافأة ليست في أن تصبح إنسانًا “أفضل”، بل في أنك تصير أكثر وعيًا بنفسك، وأكثر رحمة حين تتعثر، وأكثر حيوية حين تنجح.

شارك هذا الـمقال