الرابعة صباحًا
٤٢٦ كلمة
٠ تعليق

عن التفكير الزائد كعادة دفاعية.. لا كمهارة ذهنية

بعض الأيام تبدأ من داخل الرأس. لا صوت خارجي، لا حدث واضح، فقط فكرة تظهر دون استئذان، وتبدأ بالجرّ: “هل ما قلته أمس كان مناسبًا؟”

“لماذا لم يردّ؟ هل أغضبته؟” “هل ما أفعله حاليًا له أي قيمة أصلاً؟” وأنت لا تبحث عن هذه الأسئلة، لكنها تبحث عنك، وتجدك متاحًا، ومُرهقًا، ومفرط الحساسية. تتوالى الأفكار، كما لو أن داخلك محرّك يعمل حتى في وضع السكون.

ما يُسمّى بالتفكير الزائد، أو Overthinking، ليس تفكيرًا بمعناه الوظيفي، بل استنزاف بطيء للذهن في تفاصيل لا طاقة لك بها، ولا قدرة على حسمها. أُفكّر في أشياء لا أملك تعديلها، أُعيد سرد مواقف عادية كأنني أبحث عن خطأ مختبئ، أُحمّل نفسي مسؤوليات شعورية عن ردود فعل لم أكن سببًا مباشرًا فيها. وفي النهاية، لا أصل إلى نتيجة، لكنني أصل دائمًا إلى الإرهاق.

في كتاب The Worry Trap، يشير الطبيب النفسي تشاد ليفيتان إلى أن بعض العقول تعتاد التفكير الزائد كآلية لتجنّب الألم، لا لحل المشكلات. كأن العقل يقول “طالما أنا مشغول، فلن أُفاجأ.” لكن المشكلة أن الانشغال هنا لا يمنع المفاجأة، بل يمنع الراحة. لم أكن أعرف أن جزءًا كبيرًا من أفكاري “لا يخصني”. أفكار عن نوايا الآخرين. عن المستقبل البعيد. عن تفسيرات افتراضية لكلمات سريعة. عن نتائج لم تحدث أصلًا. ثم أتعامل مع كل هذه الاحتمالات كأنها واقع يجب التفكير فيه.

تجربة غيرت هذا قليلًا: كنت أكتب، كل مساء، جملة واحدة راودتني كثيرًا في النهار. “أظن أنني خذلت فلانًا”. “أشعر أنني لا أُنجز بما فيه الكفاية”. “الناس ترى أنني أبالغ”. ثم أتركها على الورق، وأراجعها بعد يومين. وفي معظم الأحيان، لا أجد في الجملة أي معنى حقيقي يبقى. الفكرة التي كانت تؤلمني يوم الثلاثاء، تبدو يوم الخميس مجرد انفعال لحظي. ضُخّم فقط لأنني منحته أكثر من حجمه… وأكثر من وقتي.

أنا لا أزعم أنني تخلّصت من التفكير الزائد. لكني تعلّمت — ولو متأخرًا — أن أتحقق من الفكرة قبل أن أُصدّقها، أن أتساءل: هل هذا استنتاج؟ أم شعور؟ هل يمكنني أن أتحرك بناءً عليه؟ أم أنه مجرد تشويش؟ وهل هذا الأمر فعلاً يخصّني؟ أم أنني، كالعادة، دخلت مساحة لا علاقة لي بها؟

أُدرّب نفسي على الانسحاب من الأفكار كما أنسحب من محادثة لا أريدها. أن أقول لها: “أنا مشغول الآن… عودي لاحقًا.” وأن أُذكّر نفسي أن العقل ليس دائمًا في صفّي، وأن بعض ما يُقلقني… يُقلقني فقط لأنني منحته فرصة أن يبقى.

الراحة ليست أن تتوقف عن التفكير، بل أن تُفرّق بين التفكير المفيد، والتفكير الذي يستهلكك دون أن يُحرّكك. وأن تقول للفكرة — في الوقت المناسب: أعرفك، وقد زرتني من قبللكنني لن أستضيفك هذه المرة.”ثم تترك لها الباب مفتوحًا، وتمضي إلى ما كنت تحاول أن تفعله قبل أن تقاطعك.

شارك هذا الـمقال